إنّ باشلار لا يرى اللهب بوصفه كياناً معزولاً، إنما هو القوة التي تنبض في جميع الكائنات عبر السخونة، والانتفاضة، والحس، والنشوة، والاكتواء، والصعود، والتعالي، والتسامي والارتفاع. إنه نار صغيرة تتوقد صوب الله، صاعدة وفي كل الموجودات أعلى وأعلى... هذا (الكتاب – الحلم – الخيال) إن جاز لنا أن نسميه، هو صياغة لانطباعات (الشاعر – العالم الفيلسوف) عن اللهب، إنه حنين، نوستالجيا إلى عصر سحيق، إلى عصر كان فيه للشمعة وللقنديل وللسراج وللشعر مكان في حياة الإنسان، مكان على طاولة الفيلسوف، وصومعة الشاعر، ومختبر العالم، ولذا وجدنا فيه نوعاً من خلق جديد للعالم. إنه أخلاق السعادة التي تجعلنا نخرج من فساد اللغة، والنماذج المتخشبة، والكراهية للعالم والتي تؤدي إلى القسوة والعنف، وبمقدار ما هي شعرية العلم هي علم للشعرية، هي صورة استعارية للدمج بين العلم والشعر والعالم والإنسان، فلا فرق بين النص الأدبي والنص العملي وهما يمتزجان ببعضهما، وهكذا نجد أنفسنا ونحن نذوب شيئاً فشيئاً عبر استنارة النص في نصوص من هنا وهناك: من زوهار إلى هيردر، من فينجر إلى نوفاليس، من بودلير إلى فراداي، من اللهب إلى الشعر، من الخيال إلى العقل، من الشعور إلى اللاشعور وهو العنصر المادي الذي يلعب دوراً أساسياً في عملية الخلق الأدبي، ويلعب دوراً أساسياً في الفعل الشعري، بمقدار ما يلعب دوراً أساسياً في الاكتشاف العلمي.
في الماضي السحيق، في ذلك الماضي الذي نسيته حتى الأحلام، كان لهب الشمعة يجعل الحكماء يفكرون. كان لهب الشمعة يمنح ألف حلم للفيلسوف المستوحد، فعلى طاولة الفيلسوف وعلى مقربة من الحاجات السجينة في أشكالها، وبجانب الكتب التي تعلم ببطء، ينادي لهب الشمعة الأفكار دون عدّ، ويحرِّض الصور دون حدود. عندها، ما كان يُعدّ اللهب لحالم العالم غير مظهر من مظاهر هذا العالم. ففي الوقت الذي لم يُدرس فيه العالم في كتب سميكة لم يكن هذا اللهب سوى لهب بسيط، لهبٌ يقدم مباشرة لغزه الخاص به –آه يا لسخرية العلم – ألا يتوفر اللهب على عالم حيّ إذن؟ ألا يتوفر اللهب على الحياة؟ ألا يتوفر اللهب على علامة مرئية لكائن حميم؟ ألا يتوفر على علامة قوة خفيّة؟ ألا يتوفر اللهب على كل التناقضات الداخلية التي تمنح الديناميكية لميتافيزيقيا بدائية؟ أنذهب للبحث عن جدليات الأفكار بينما تمكن جدليات الوقائع وجدليات الكائنات في قلب ظاهرة بسيطة؟ إنّ اللهب هو كائن عار عن الجسم، وفي الوقت ذاته هو كائنٌ جبار.