هذا الكتاب ليس كتابا في المذكرات فقط، نتعرف من خلاله على الجواهري، ونجيب سرور، والبياتي، وجيلي عبد الرحمن، ورشيد ياسين، ويوسف إدريس...وغيرهم. ولا كتاباً في الرحلات حيث نتعرف من خلال وقائعه وسرده على دمشق الخمسينات والقاهرة وموسكو وغيرها من مدن العالم، إنما هو كتاب يبحث في هوامش التاريخ، في البسيط والمهمل منه. في العامي والمركون والمبذول، ولكنه يبزغ عبر نوع من السرد الكثيف إلى البحث في السرديات الكبرى التي ظهرت في عصر هو أخطر عصر مر على العالم العربي والعالم بأجمعه، إنه منتصف القرن الماضي الذي وصفه هوبزباوم بقرن الثورات. ومن خلال هذه السرديات الصغرى نتعرف على سرديات كبرى كانت مسؤولة عن خلق مسيرتنا التاريخية وتعثرها، بل هي التي بذرت تجربة الشعر العربي الحديث، وأرخت للنضال السياسي في العالم العربي، وحققت أثر شيوعية الاتحاد السوفيتي، وشرق أوربا فينا وقي ثقافتنا. بجملة واحدة: هذا الكتاب هو من أهم كتب المذكرات التي كتبت باللغة العربية، لا تكمن أهميته فقط بالمرحلة التي يتحدث عنها، والمدن التي يتناولها والأشخاص الذين صنعوا نسيجها، إنما لأنه كتاب على هامش التاريخ، هذا الهامش الذي لا يكون للتاريخ فيه معنى من دونه. إنه لا يقتصر على وصف لحظات يمكن وصفها أنها مفصلية أو تاريخية أو درامية، إنما أهميته في تلك اللحظات التي يقتحم فيها التاريخ السيرة الذاتية، من دون أن تنشغل بالمؤلف نفسه، فترسم صورة للذات مفتوحة على الإسطوري والمقدس كما في أغلب المذكرات، نما تغيب الشخصية لصالح التاريخ، وننسى الزمن الحقيقي أمام ظهور شخصيات نعرفها على الورق، ولكن لا نعرف حياتها الشخصية ولا كيف تعيش وكيف تفكر. هذه المذكرات الرائعة هي هدية الوقت والموهبة والتسامح الذي اتصف به كاتبها.
أسدل الليل ستائره وزهت دمشق بأضوائها، وتلألأت نجوم قاسيون وحي الأكراد المعلقين في السماء، وأنا في زاويتي من ساحة مقهى المحافظة مع أحد الكتب الجامعية المقررة.