ثلاثة مقاطع من الكتاب
رشيد ياسين شاعر اللحظة المضطربة
أسدل الليل ستائره وزهت دمشق بأضوائها، وتلألأت نجوم قاسيون وحي الأكراد المعلقين في السماء، وأنا في زاويتي من ساحة مقهى المحافظة مع أحد الكتب الجامعية المقررة.
قدم رشيد...سحب كرسياً قريباً وجلس قرب طاولتي، وقبل أن أسأله عما يحب أن يشرب قال على عجل وبلهجة منفعلةً:
- استمعْ الآن إلى هذه القصيدة الثورية...ابتدأ بقراءتها وكأنه على خشبة مسرح... يعلو صوته ملوّحاً بكفيه... تتسع حدقتاه... تجحظ عيناه...وينهض عن كرسيه أحياناً... أتمّ القصيدة... وبين التهكم والجد عقـّب بقوله:
- لقد ألقيتُ هذه القصيدة في حشود المتظاهرين ببغداد، ومنذ ذلك الحين والشرطة والمخبرين بدأوا بتعقبي هناك، وأصبحت مواقف الشعبة الخاصة سكني الثاني، حتى تسنّى لي الهرب والقدوم إلى دمشق...صمت برهة ليسألني بنفس اللهجة المسرحية الساخرة:
- ما رأيك بهذه القصة المدعومة بالقصيدة الغاضبة لأتقدم بها إلى السلطات السورية لطلب اللجوء؟
- ولكنهم سيعرفون يا رشيد، إنك كنت في أطراف اللاذقية تمارس التعليم للمرحلة الابتدائية قبل أن تفصل أو لنقل يستغنى عن خدماتك هناك.
- من سيعرف عن مدرسة صغيرة في قرية نائية...ثم إن موضوع اللجوء ستحسمه السلطات العسكرية لا وزارة التربية... أنت تعلم إني بأمس الحاجة إلى الخمسة والسبعين ليرة الممنوحة للاجئين العراقيين، أضف إلى إن الاقامة الرسمية ستسهل فرصة أفضل للبحث عن عمل.
خلال قرابة الشهر من معرفتي برشيد ياسين ولقاءاتنا العديدة، وبالرغم من سرده للكثير من تفاصيل حياته الغرائبية في أحياء بغداد القديمة، كان يتحاشى التطرق إلى فترة تواجده في قرية قرب اللاذقية أو عمله في التعليم هناك، بل ويحوّل مسار الحديث لو اقترب من تلك الفترة، حتى حين استمرت علاقة الصداقة، التي أصبح ت متينة في الاشهر بل والسنين التي تلتها.
كنت أتابع حياته- الغجرية – الصعبة في دمشق آنذاك، من النوم على الكنبة الممزقة في الغرفة الصغيرة في إحدى الصحف التي يقوم بمراجعة وتصحيح بعض مواضيعها قبل النشر، إلى الاستدانة غير مأمولة التسديد لما يسد الرمق، إلى وسيلة للحصول على علب السجائر من هذا أو ذاك ولن اقول من الاصدقاء إن كان له اصدقاء، فلم أر أيّاً منهم آنذاك...
لقد كان صعب الطباع، بل وعدوانياً في كثير من الأحيان لمن يخالفه الرأي، وكثيراً ما كنت أسأل من هذا العراقي أو ذاك، عن صبري على تحمل صداقته...الغريب إنه لم يدخل معي في أي موقف صدامي، رغم انفعالاته الصاخبة في نقاشاتنا العديدة والتي لا يبقي فيها على أحد سليم الذكر.
مسرور كتانة اليهودي التائه
وصل مسرور إلى اليونان بعد خروجه من السجن وبعد مؤامرة إسقاط الجنسية عن اليهود لدفعهم - وبتخطيط دولي- إلى اسرائيل...وصل أثينا وكان أمامه خياران...توصية الحزب الشيوعي لدخوله الاراضي السوفياتية...والباب المفتوح إلى إسرائيل...الخيار الأخير معناه خيانة لقناعاته الماركسية الوطنية بأن الكيان الصهيوني عصاة موسى الاستعمارية للاستحواذ على الشرق الأوسط...أضف إلى إنه طعنة للوطن الذي أحبه وضحى في سبيله...لم يطعنه الوطن في ظهره ولا ناسه الطيبون، إنما طعنه من تآمر على العراق ومن خانه...
... لم يطل مسرور التفكير في الخيارين...توجه في اليوم التالي إلى السفارة السوفياتية ومعه رسالة توصية الحزب الشيوعي العراقي...أيام ويدخل مسرور إلى العالم الاشتراكي المسحور...مطمح الشعوب.
قبل بكل الأوضاع الصعبة في البداية وأقنع نفسه بكل مبررات وجودها...وجدوا له عملاً كمذيع في إذاعة موسكو...تزوج من غالا وهي روسية تعمل في وكالة الأنباء ( نوفستسي )...كل شيء بدا مقبولاً حتى حلت نكبة الإزاحة عن البث الإذاعي.
أحداث كثيرة تتوالى وشخوص يمرون عابرين على حياتي في تلك الآونة...بعضهم يترك أثراً.
...يُـنحى عبد الوهاب البياتي عن منصبه كملحق ثقافي، لعدم قدرته على التوفيق بين مهامه الوظيفية، وخصوصاً مع آلاف الطلبة الذين قدموا، وبين مهامه كشاعر... يريد الشاعر أن يكون له حضور متميز في المحافل الأدبية.
...يتنحى عنه اهتمام السوفيت كثيراً...يخسر شقة الملحق الفارهة...يسكن في غرفة في فندق موسكو...ينفّض عنه الكثيرون...ألتقي به مراراً وغالباً في الطابق العشرين من الفندق على مائدة الغداء في المطعم الكبير أو على فنجان قهوة في البهو.
...يصل محمود صبري فتهيء له شقة بمرسم وسيع بمنطقة شبه مقفرة غير بعيد عن سكني...بالطبع يضع الروس له مرافقة جميلة لا يتجاوز عمرها السادسة عشر...تعرف بضعة كلمات انكليزية...أزوره مراراً أجده أحياناً في أزمة مع الوحي الفني..." الضوء شحيح عبر النوافذ الصغيرة "..." الثلج في الخارج يجمد العواطف في الداخل "..."ارتفاع المرسم غير كاف لحجم اللوحات الكبيرة "...
... أضف إلى كل ما اشتكى منه، هنالك دلع الصبية (الفرفورة) الجميلة...أراقبها بنشوة وهي تتغنج بزعلها عليه، رغم معطف الفرو الثمين الذي ترتديه، المقدم كعربون للصلح...أكون في مرات عديدة وسيط صلح بينهما، هذا إضافة إلى الترجمة التي أقوم بها لما يريد أحدهما أن يقول للآخر.
...سرعان ما يختنق محمود صبري...يطلب تدخل الحزب ليهيء له مكاناً في براغ.
...مسرور يدعونا أنا والبياتي إلى عشاء في شقته...
...لأول مرة أرى مسرور مسروراً بحق وحقيقة...يهلّ وجهه بالبشر والترحاب وهو يفتح لنا الباب ...حتى غالا زوجته المتأنقة، تعلو وجهها المحافظ ابتسامة مشرقة وهي تهيء أنواعاً عديدة من أطايب المأكولات الروسية...نجلس أربعتنا حول المائدة الصغيرة بمربع الشقة الصغير ومع أقداح الفودكا نتناول العشاء كعادة الروس على المائدة والأحاديث تجري بسلاسة من موضوع إلى آخر...كل شيء كأحلى ما يكون...
على فنجان قهوة بعد العشاء...يدور الحديث، السياسة من صلبه...الاتحاد السوفياتي والانشقاق الصيني وتأثيره على الأحزاب الشيوعية في بلدان العالم وعلى أحزاب الشرق الأوسط بشكل خاص...دور هذه الأحزاب والقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني داخل البلد المغتصب...يبحث مسرور بين الأدراج ويخرج بضعة أوراق...يعرض على البياتي جريدة الحزب الشيوعي الاسرائيلي وبيانه لمناصرة الفلسطينين داخل الأرض المحتلة...رفيق في الحزب يعرضها على رفيق آخر...
يصمت البياتي للحظة...يخرج علبة سجائره...يولع إحداها...يأخذ نفساً عميقاً وينفث الدخان بقوة وهو ينظر إلى السقف...
-...ما أنت إلا صهيوني لعين...بل وعميل وجاسوس قذر! يصرخ بوجه مسرور.
يصاب مسرور بالهلع ويرتجف...تسقط الأوراق من يديه...يمتقع وجه فجأة ويتهدل جسمه...يسقط عن كرسيه...نهرع أنا وغالا إليه...أطلب اليها أن تأتي بقدح ماء بسرعة...أفتح أزرار قميصه وأتناول دورق خل صغير من فوق المائدة...أدلك وجهه وصدره بالخل وأرش وجهه من قدح الماء الذي أحضرته غالا الباكية...يفتح عينيه ويحاول النهوض...البياتي يجلس دون تململ وينفث بضعة أنفاس من دخان سجارته بشدة في الهواء...ينهض ويتوجه إلى باب الشقة...يفتحها...يقف في انتظار المصعد...أتوجه إليه...
- لماذا يا أبا علي...لماذا بالله عليك...أهذا جزاء هذا المسكين الذي طيرّه الفرح بقدومك ؟!
- إنه يهودي لعين...صهيوني قذر!
المقطع الثالث عن البصرة
بعد تناول وجبتي في مطعم فندق المطار الفخم، جلست في الصالة الواسعة ( اللوبي ) لأتناول فنجان قهوتي ... مقاعد مريحة أنيقة وطاولات فوقها مزهريات بباقات ورد صغيرة ... عدد كبير من علية القوم في انتظار طائرتهم ... آخرون يسترخون مثلي وراء فنجان قهوة أو قدح بيرة مبردة.
... المطعم مدخله من اللوبي، قاعة البار وصالة الحفلات والرقص مدخلها من الجانب الاخر لّلوبي.
قدمت في إحدى الليالي بدعوة من الصديق علي ناصر وزوجته ( وهو نحات وصاحب محل للموبيليات ) إلى صالة البار والمرقص والتي لا يسمح للعازبين دخولها دون رفقة عائلية.
لقد كانت ليلة من ليالي العمر السارة ...
... قاعة المرقص بمقصورات جانبية لجلوس العائلات ... .إنارة القاعة خافتة يضفي عزف البيانو عليها شاعرية مضاعفة ... بار كبير جميل في صدر القاعة جلس فوق مقاعده العالية أزواج من البصريين والأجانب.
... في التاسعة حضرت الفرقة الموسيقية، وبدأت في عزف ألحانها الراقصة الهادئة ... الفوكستروت، فالس بوسطن، التانجو ... بعد نصف ساعة قام زوج من الراقصين، سرعان ما التحق بهم أزواج آخرون ...
... رقص علي وزوجته ... شجعني لأطلب يد آنسة من الجالسات للرقص ... نهضت وتقدمت إلى إحدى الجالسات مع عائلة طبيب أخصائي في مستشفانا ... لم تعتذر ... نهضت وأخذنا نرقص على الأنغام الهادئة ... حادثتها أثناء الحركات الهادئة عن مواضيع خفيفة عامة ... رافقتها ونحن نعود إلى مقصورة عائلتها وانحنيت شاكراً ... كنت وكأني في قاعة رقص راقية في لندن أو براغ!
" ... لا تعجب يا هذا أنت في جمهورية البصرة المتحضرة " اطلب الكتاب اذا اردت المزيد