جيرارــــ جورج لومير
القهوة والأدب
المقاهي الأدبية من القاهرة إلى باريس
ترجمة: د. مي محمود
مقدمة الترجمة العربية
بقلم علي بدر
في العام 1806م حقق المستشرق الفرنسي الكبير سلفستر دو ساسي رسالة عمدة الصفوة في حل القهوة، لزين الدين بن عبد القادر الجزيري الحنبلي، على نسختين غير مؤرختين، واحدة في باريس، والأخرى في طوبقو. ثم قام اليازجي بتلخيص هذه الرسالة في مجلة الضياء في عامها الأول.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى بدايات القرن الماضي أخذ الاستشراق، والاستشراق الفرنسي خاصة يعنى بالرسائل المؤلفة حول القهوة من الناحية الايتمولوجية والاجتماعية والثقافية، فكانت هناك مخطوطات أخرى مثل تحفة أخوان الزمن في حكم قهوة اليمن، للسيد مرتضى الزبيدي شارح القاموس. ومقدمة في فضل البن للعلامة علي الأجهوري، والسر المكنون في مدح البون (أي البن) لابن علوان، ورسالة في حق القهوة لأبي سعيد الخادمين، وقد طبعت في الإستانة في القرن الماضي، ورسالة في الشاي والقهوة والدخان للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي المتوفى في العام 1332، وهنالك العشرات من الأراجيز في مدح القهوة وذمها:
فإذا كان الشيخ أحمد العناياتي المتوفي في العام 1013 هـ يقول:
فداك روحها در الأدب في قهوة كالمسك بل كالذهب
فإن الشيخ العمريطي الشافعي الأزهري أتم نظم أرجوزة في ذم القهوة وذكر أضرارها في العام 968ه، وبدأها بـ:
الحمد لله الذي قد حرم على العباد كل سكر وما
وقد أفرد الرحالة الأوربيون في مذكراتهم مكاناً بارزاً للقهوة وللمقهى في البلاد الاسلامية، وابتداء من القرن السابع عشر أخذ الجمهور الأوربي ينتبه إلى معلم مهم من المعامل السوسيوثقافية التي ميزت بشكل كامل طابع المجتمعات الإسلامية، وهي القهوة شراباً والقهوة مجلساً، ومن ثم انشغلت الدراسات الاستشراقية بالموقف الفقهي الإسلامي من القهوة تحريماً وتحليلاً، حتى عبرت القهوة شراباً ومجلساً من البلاد الإسلامية إلى البلاد الغربية.
لقد انحصر نطاق الدراسة الاستشراقية بتعيين القهوة في حدود استخدامها وتحولها:
1- لقد استخدم المتصوفة المسلمون هذا الشراب من أجل الوصول إلى حالة من الوجد والتسامي بوصفها مادة مساعدة.
2- استخدم هذا الشراب لأغراض علاجية، ولأمراض مختلفة، وقد نصح الأطباء المسلمون باستخدامها.
3- تحول هذا الشراب إلى مكان يتذاكر فيه الأدباء بالشعر والأدب والثقافة، واصبح واحداً من المنتديات الثقافية لتلك الفترة.
4- تحول هذا المكان إلى مجلس للأخبار والنقد السياسي والموقف من السلطة. وقد عمدت السلطة أكثر من مرة إلى غلق المقاهي ولاسيما في فترات الاضطراب السياسي.
5- تحولت المقهى إلى سمة تمييزية للمجتمعات الاسلامية.
6- انتقل المقهى إلى العالم الغربي وتحول إلى علامة اجتماعية ثقافية أخلاقية عالمية في كافة أرجاء المعمورة.
لقد انشغل الرحالة الغربيون الذين وصلوا إلى البلاد الإسلامية في القرون الثلاثة السابع عشر، الثامن عشر، التاسع عشر بالوصف الاثنوغرافي والاجتماعي لهذه البلدان، وكانت رحلة تافرنيه ورحلة شاتوبريان ورحلة فلوبير ورحلة نيرفال ورحلة بيير لوتي ورحلة تيوفيل غوتيه تنشغل انشغالاً منسحراً بالطابع الاستتيكي الجمالي (والثقافي) للمقهى في البلاد الاسلامية، إلا أن تعيين الطابع وضع عامل نشوء المقهى منحصراً بصورة محاكاة للترف الآسيوي العثماني ومحاولات تقليد الناس للبذخ والترف الذي كان عليه البلاط السلطاني في الدولة العثمانية، أو يتعدى ذلك إلى الطبيعة الأساسية للفرد الشرقي، وهي حب الكسل والتراخي والذي أطلق عليه الاستشراق بـ (La Paresse orientale) الكسل الشرقي، والذي وصفه نيرفال لحظة وصوله إلى بيروت حيث رأى الكل نياماً في الظهيرة، التاجر الذي يبيع الرقي نائم قرب بضاعته، والنساء في الحمامات نائمات، والحرس قرب بيت الوالي نائمون وقد تركوا المدينة للهجران.
في الواقع نحن لا نريد أن نخوض نقاشاً في هذه الصورة التنميطية التي وضعها الاستشراق للطبيعة الشرقية، والتي جعل منها سمة تمييزية ثابتة في العنصر الشرقي، تميزاً عن الغربي المغامر، والنشيط، والأشقر، والغني إلا اننا نقول أن المقهى إفراز ثقافي للطبيعة الشعرية في المجتمعات العربية والإسلامية.
ويشكل المقهى إلى اليوم لقاء الثقافة والآداب والفنون بشكل عام. كما أن البلاد العربية تفرد اهتماماً خاصاً ولاسيما في النصف الأخير من القرن العشرين لمكانة المقهى في الثقافة، في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت والرباط وتونس. وربما احتل مقهى ريش في القاهرة هذه المكانة الأدبية الكبيرة، والتي حولها نجيب محفوظ بعد حصوله على نوبل إلى مقهى يقع إلى جانب مقهى فلور، ومقهى ليب، والمقاهي التي شهدت أعظم التيارات الأدبية والفكرية والسياسية في العالم.
ويعد كتاب المقاهي الادبية لجيرار جورج لومير واحداً من أهم الكتب التي تعالج نشأة المقهى وانتشارها، وعلاقة المقهى بالآداب والفنون، ابتداءً من نشأة القهوة شراباً وحتى وصولها إلى أوروبا عن طريق مبعوث السلطان العثماني أغا مصطفى راكا الذي زار باريس في العام 1669. وأهمية هذا الكتاب تنبعث من إضافة التحليل السوسيولوجي لانتشار المقاهي إلى التحقق التاريخي من تطورها وانتشارها. ويتابع لومير هذه التطورات التاريخية والثقافية للمقهى بصورة واسعة ويحدد علاقتها المباشرة بتطور الآداب والفنون فضلاً عن علاقتها المباشرة بتطور المدنية من الناحية العمرانية والثقافية والسكانية.
لقد صنع لومير من كتابه دليلاً ثقافياً جذاباً للانتقال من الجزيرة العربية إلى بلاد فارس، ومن اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية إلى القاهرة، ومن الرباط إلى حلب ودمشق حيث يتجمع الناس لسماع الحكواتي في رمضان، ومن ثم انتقال المقهى إلى باريس، حيث انطلقت الصحافة من المقهى والتيارات الأدبية من المقهى، والثورات السياسية والاجتماعية هي الأخرى انطلقت من المقهى، ويتابع بشكل جذاب علاقة الأدباء بالمقاهي من أحمد راسم في اسطنبول إلى نجيب محفوظ في القاهرة، حتى يصل إلى فولتير وروسو وبروست، وكذلك أبولينر وفرلان وبروتون وفيليب سولروس وسارتر وكامو وسيمون دو فوار، ويتابع التيارات الأدبية من الكلاسيكية إلى البرناسية ومن الرمزية حتى السريالية ومن المستقبلية إلى الوجودية.
وبالرغم من صعوبة النص وكثرة إحالاته الثقافية إلا أن المترجمة القديرة د. مي محمود حققت نصاً مترجماً جميلاً في وضوحه ودقته، وأسدت للمكتبة العربية وللقارئ العربي فضلاً كبيراً في تقديم كتاب يُعدّ أهم ما كتب في هذا الشأن.