لا يتوقف الكاتب العراقي علي بدر عن الحفر في الأفكار التي ترتحل بالمجتمع من نقطة إلى أخرى، ومن مرحلة سيئة إلى أسوأ. وعلى رغم اهتمامه في معظم أعماله بالمواطن العراقي المنتمي إلى الطبقة الوسطى في شكل عام، بدايةً من «بابا سارتر» (2001) حتى رواية «الكذابون يحصلون على كل شيء» (2017)، يكسر السرد الحدود العراقية لينسحب على المنطقة العربية بأكملها.
في الرواية الجديدة التي تحمل عنواناً لا نملك سوى الموافقة عليه، لعلمنا بأنّ الكذابين يحصلون بالفعل على كل الأشياء، يرسم بدر رؤية المهاجرين الذين لم يجدوا إلا العاصمة البلجيكية بروكسيل ملاذاً لهم. ويبدو أن السرد الذي يتناول المهاجرين وحياتهم في المنفى - إراديا أم إجبارياً - يشكل بالضرورة جزءاً كبيراً من السرد العربي في الفترة المقبلة. فإذا كنا نشهد الآن واحدة من أكبر موجات الهجرة القسرية التي تغيّر التركيبة الديموغرافية والاجتماعية والسياسية في نقطة الرحيل ونقطة الوصول، فلا بدّ أن نتذكر أن الكتّاب العرب أنفسهم يشكلون جزءاً كبيراً من هؤلاء المهاجرين. ومن هنا يجد الكاتب نفسه متورطاً في عالم كان يُمكن أن يُشكّل عمود السرد، إلا أن المتغيرات الواقعية قد ألقت به فعلياً في وسط هذا العالم، فيتحول إلى فاعل عبر الكتابة عنه ومنه. ولا يُمكن تجاهل هذا «العالم الجديد» الذي يصيغ رؤى السرد في الفترة المقبلة إلى حدٍّ كبير.
ومن ناحية أخرى، تكمن دائماً خطورة سرد هذا العالم الجديد في كون المتلقي قد يتعامل معه بوصفه تسجيلاً لتجربة ذاتية، ما ينفي صوت الشخصيات ويضعها بأكملها تحت وصاية الكاتب. وقد تمكن علي بدر من الإفلات من هذا الفخ عبر تجنّب سرد القصص التي أتت بالمهاجرين، وأيضاً عبر فتح عدسة السرد بحيث لا تقتصر على العراقي أو العربي، بل تُصوِّر كل من هو مهاجر، عربياً أو غير عربي. أما التقنية الأخرى التي أفلتت بها الرواية من التحول إلى مجرد سجل لتوثيق الآلام والأحزان التي يحملها كل مهاجر معه، فهي تقنية تحويل الشخصيات إلى أنماط ونماذج وكأنها «أركيتايب» الإنساني.
لا ينطلق علي بدر في تصويره نمط المهاجر المخلوع من أرضه- سواء كان وزيراً أم غفيراً أم عاطلاً- من الجماعة، بل يبدأ من الفرد، وتحديداً بصوت جلال العراقي الذي حصل على اللجوء في شكل قانوني. وإن كنا لا نعرف الكثير عن حياة جلال السابقة، إلا أننا نعي تماماً رؤيته للعالم عبر العشرة فصول التي نقرأها بصوته أو بالأحرى من خلال أوراقه التي يتصدر كل جزء منها تقديماً تأملياً كُتب بصوت آخر، يوهمنا الكاتب في النهاية أنه صوته، لكنها خدعة سردية أخرى تضيف إلى حفريات السرد.
جلال هو نموذج المثقف الذي يعي ما يحدث حوله ويستوعبه ويقبله، كما أنه قادر على الربط بين الماضي الأوروبي والأفريقي والحاضر العربي- تحديداً ما بعد الثورات العربية. وبذلك يتحول صوت جلال، أو أوراقه كما يجيء في السرد، إلى إطار رؤيوي عام لأحداث المنطقة التي سقطت في الوحل الفكري عبر سيطرة ما يسميه جلال «الطبقة الرثة» أو «شعب القاع». ومن خلال السرد ينتقل نموذج جلال ما بين البطل المهزوم- نموذج تايريسياس الذي رأى كل شيء- والبطل الضدّ الذي يسعي إلى سرقة المليون دولار من الوزير المخلوع ليمنحها إلى اللاجئين السوريين والعراقيين.
وفي هذا التنقل ما بين الهزيمة النفسية والضدية، الشبيهة بروبن هود الأوروبي وأدهم الشرقاوي العربي، يتسع السرد ليُضمن نماذج أخرى من المهاجرين تقع في مجاله الاجتماعي. فهناك جورج الذي جاء من الموصل، وغيّر اسمه إلى أمين ثم أصبح لقبه الأستاذ- لأنه يستشهد دائماً بأقوال ينسبها زوراً إلى ماركس، والذي يعيش في بروكسيل بأوراق مزورة ويشترك أحياناً في عمليات تهريب تافهة.
تتشكّل حياة جورج من ثقافة سمعية، كأنه نمط لا هدف له، بحيث رفضته كل العوالم التي ولجها حتى صديقته السورية دلال. وهي بالمناسبة نمط آخر للنساء اللواتي تتشكل حياتهن مبكراً عبر فعل اغتصاب حقير فلا تجد ملاذاً سوى قلب الأستاذ الحنون. تعيش كل هذه الشخصيات على حافة الحياة وهامشها ليس لأنها عربية ولكن لأنها مخلوعة من عالمها بلا أمل في الحاضر (سوى المليون دولار التي يتضح أنها وصلت بروكسيل مزيفة!). وبالمثل، نقابل فلاديمير المهاجر الروسي الذي لا يتورع عن خوض معارك شوارع مع الألبان، والذي يقدم كل يوم أحد عرضاً بلعبة الروليت الروسية، كل يوم أحد يراهن فلاديمير على حياته وينجو. ثم تظهر أداليد الشابة البلجيكية التي تناهض الطبقية والعنصرية وتعي تماماً مناطق القبح في التاريخ الأوروبي. تتفاعل هذه الأنماط- على اختلافها- بمنتهى السلاسة، فكلهم قد أتوا من نبع القهر والهزيمة عينه. يبقى على الطرف النقيض نمط الوزير المخلوع من بلاده، الذي سرق علانية مليون دولار من خزينة الدولة وأوكل أمر تهريبها إلى بروكسيل إلى شركة تركية. إنه أكثر الأنماط سوءاً، السلطة التي لا ترى سوى السلطة، فتستغني بذلك عن كل ما هو خارجها، وفي سبيل الحفاظ على المنصب، لا يتورّع هذا النمط عن الانتقال من الاشتراكية إلى خطاب إسلامي ركيك، حتى أنه يعود إلى بلاده وزيراً في الحكومة الجديدة، تماماً كما قال الأستاذ في البداية: «الكذابون يحصلون على كل شيء». إنه النمط السائد بعد كل ثوراتنا، كل هؤلاء المخلوعين يعودون في ثياب أكثر رونقاً وبخطاب أكثر مكراً، في حين يبقى كل المهاجرين في أماكن تلفظهم، حتى جلال (روبن هود) الذي يعود يوماً لزيارة العراق يُقتل في تفجير الكرادة.
يقوم السرد إذاً على التضاد والتقابل، وإذا كانت كل الشخصيات هي أنماط ونماذج إنسانية متكررة آلاف المرات، فإنها تبقى غير متساوية. جلال وزمرته (بما في ذلك خيانة دلال ومراهنة الروسي على حياته في شكل فجّ والتهريب الذي يلجأ إليه الأستاذ وسعي جلال إلى سرقة المليون دولار) يحتلون موقع الهامش، الغبار البشري، هم (نحن؟) لا شيء، هزيمة أبدية، وإقصاء متواصل. لذلك نقابلهم يتحركون في أماكن بعيدة وهامشية مثلهم، حانات صغيرة أو بيوت يتراكم فيها الغبار أو أرصفة الشوارع، ولا يخرج نوع الأكل عن البيتزا أو الباستا. في حين يتمركز الوزير المخلوع وكلّ من يشبهه في حيّ لويز الذي يجمع كل السياسيين المخلوعين بعد ثورات أو انقلابات في بلدانهم، حيّ المتاجر العالمية والقصور الفاخرة (التي امتلكها أصحابها بالأموال المهرّبة من الخزائن) والمطاعم الفاخرة، فنشهد التهام القريدس وتغيب البيتزا.
بالإضافة إلى الأنماط التي رُسمت بدقة، تُحيل الرواية أحداثاً عدة إلى مؤشرات ذات دلالة، فهناك مثلاً مسألة المليون دولار التي يستغلها الوزير ليعيش عالة على المهاجرين. فتكتسب الثروة- المسروقة أصلاً- دلالة الفخ الذي يسقط فيه البائسون والمهزومون، وتشكل الأمل الذي يعيش عليه البعض الآخر، فخاخ حقيقية وآمال وهمية. وكأن الثورات لم تترك أثراً يُذكر سوى أوهام. منذ بداية السرد وحتى نهايته تكتسب المليون دولار دلالة النور الذي يجذب الفراش. أما أداليد، وعلى رغم كونها نمطاً روائياً، فإنها تكتسب دلالة معينة عبر استعراض المصير الذي آلت إليه، فبعدما قضى جلال والأستاذ تحوّلت إلى متطوعة لمساعدة اللاجئين. وهذا هو الأمل الوحيد الذي تمنحه الرواية للقارئ، إنه أمل التواصل والفهم الصادق لمأساة الإنسانية.
المصدر الحياة