كتب ذات صلة

الشرق الغريب الشرقي المحتال

د. مي محمود علي بدر

اطلب الان

كتاب الشرق الغريب

هذا الكتاب الذي نضعه بين يدي القارئ العربي هو عن L’EXOTISME الغرائبية في الأدب الفرنسي، وأهمية هذا الكتاب من وجهة نظرنا تكمن في كشفه عن المخزون التصوري للأدباء الفرنسيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، ورؤيتهم لشرقنا العربي والإسلامي، كما أنه يقوم بعرض واسع لرحلات هؤلاء الأدباء وعملية إدراكهم وفهمهم للشرق وبحثهم عن فك غموضه وإبهامه وعاداته وعقلياته ضمن اللغة والتاريخ والخطابة الغربية وعمليات التماحك الديني.

فضلاً عن ذلك يزدونا هذا الكتاب بمادة اثنوغرافية غزيرة عن حياة وعادات شعبنا العربي وشعوبنا الإسلامية في الشرق في فضاء القرن التاسع عشر، ولإدراكنا صعوبة توفر هذه الرحلات بين يدي القارئ العربي - حيث اعتمد هذا الكاتب على أكثر من مائة رحلة وروابة تخص الشرق العربي الإسلامي - آثرنا ترجمة هذه الفصول التي تمدنا بمادة ممتعة كتبت بأسلوب شيق وتناولت مساحة جغرافية واسعة من آسيا الصغرى إلى سورية ومن مصر إلى الجزائر ومن تونس إلى المغرب.

في الواقع لم يعتمد بيير جوردا على أدب الرحلات وحسب إنما على الروايات والقصائد التي تناولت الشرق، والتي شكلت نوعاً من الاستمرارية المنظمة لما يطلق عليه عادةً بالاستشراق، وهي المعرفة الغزيرة بالشرق ووصفه وإعادة توزيعه وتشكيله ضمن فروع الدراسة العلمية، وإن كان الاهتمام ينصب عادة بالبحث عن الغرائبية فإن الكاتب تناول بشكل متسامح مقام الشرق وحياته وعاداته وجغرافيته وثقافته كما ظهرت في الأدب الفرنسي، ولا يدخر جهداً أحياناً من النقد والتقويم والسخرية من الرؤية المبالغ بها أو الرؤية الخيالية للرحالة الأدباء ولا سيما الرومانتيكيين منهم، حيث أطلق عليهم بالمبرأين من السحر.

حيث يظهر لنا الشرق بشكل جلي كضرورة من ضرورات الخيال، وإن العلاقة بين الشرق والغرب ليست علاقة بريئة إنما علاقة من علاقات القوة والسيطرة والسلطة وبدرجات متناقضة من الهيمنة المعقدة والمتشابكة.

لقد كان الهمّ الأساس الذي يواجه الرحالة ويصوغ عمله هو عملية النقل المنظم والمباشر للصورة المخالفة والمعارضة للثقافة التي أنتجته، أي نقل المشاهد والحالات التي لم يألفها، والغريبة عليه في الإطار التصويري الاجتماعي والسياسي لثقافته، وإنّ عملية النقل بحد ذاتها لا يمكنها أن تكون خالية من التأويل أو التمثيل الذي يجد مبرره في نظام من التعسف والتحيّز، أو الإسقاط الذي يسير على وفق سلسلة من العناصر هي باختصار:

إما إزاحة العناصر المتقاربة بين الثقافتين – الثقافة المهيمنة والثقافة المهيمن عليها – أو محاولة التقاط العناصر المتباعدة وحسب، أي بالبحث الحثيث لإيجاد نقاط التعارض والاختلاف، وهذه الأخيرة هي إحدى الوسائل الضرورية لعملية الكشف والفحص، ومنح الصورة التقريبية عن الآخر.

إذن يخضع مفهوم الآخرية في أدب الرحلات الغربي، إلى عملية إستبناء وهي عملية ديناميكية تعمل بصورة تلقائية، وبشكل متبادل، فإما أن تكون صورة الآخر مبنية بشكل قبلي داخل اللاوعي الجمعي للثقافة، وهي صورة فورية كونتها عناصر تاريخية واجتماعية وسياسية متعاقبة، وإما صورة تقوم على أساس اختيار العناصر المطابقة للعناصر القبلية ومحاولة تقريبها وفرضها بالقوة ضمن نظام بلاغي يصحّ أن نطلق عليه بالخطاب، أو على الأقل هو (خطاب الرحلة).

إنّ الكشف الجغرافي الذي يؤدي إلى اكتساب معرفة الآخر – وهي معرفة امتيازية بطبيعة الأمر – وتوصيف لغته وحياته وتقاليده يؤدي بالرحالة إلى تقديم مادة اثنوغرافية مهمة، تقوم بالأساس على قاعدة المقارنة بين النظم الاجتماعية والثقافية والسياسة المختلفة، بيد أن المقارنة تقر بالنتيجة رجحان كفة النظام الذي ينتجها، أي رجحان كفة النظام الذي يصوغه الرحالة لنفسه، وهو النظام ذاته الذي يصوغه هو في آن واحد، أي أنهم يصنعون النظام الذي يصنعهم على حد تعبير فيكو.

مقطع من الكتاب

إن تركيا هي أرض العبادات، والمعجزات وحتى الخرافات... إنها بلد التأمل العميق والحدس، والعبادة، إنها البلاد التي تهيمن عليها الجوامع، الجوامع التي تمتد في كل البلاد، وعلى المدن الصيحة الطقسية (الله أكبر) وحيث تصطف على أبواب جوامعها البوابيج، ترى أجنحتها وهي تهتز بصلوات المؤمنين، والتي ترتل بصوت حاد آذان المؤذنين، إنها ثيمات عديدة، وتنويعات لامعة، وسندع هنا لامارتين، ومارميه، وغوتييه ونرفال لنأتي في الحال إلى بيير لوتي الذي عرف كيف يصف هذا شعراً أفضل من غيره:

(الترتيل ذو اللغز العظيم الذي يراق بدفقات سوداوية عصية على الوصف، ثم تتعاقب سلسلة متتابعة في طبقة صوتية واطئة، إنه نشيد التذكير لأولئك الذين دوخهم سراب الأشياء المؤقت، إنه نشيد الخنوع، نشيد الموت والحزن العذب اللذيذ في صوتهم الذي ينقل في ساعات محددة بحزن غير متناه اسم الله *** الله أكبر).

لقد أوحى الآذان إلى بيير لوتي، عدداً من الصفحات الرقيقة إلى حد الانفعال، التي كرّسها للإسلام، فهنالك في كتابه (المبرورون من السحر)، مقطعاً شعرياً مكثفاً، يقدم لوتي فيه المؤمنين وهم يصلون بصمت في الجامع، بعد أن دعاهم صوت المؤذن العذب، في حين أنه الرومي الذي حرّم عليه الاقتراب من السقيفة الخارجية عندما ترتفع الصلاة...

هنالك على الأقل ثيمتان دينيتان تتعلقان بالإسلام لم يهملهما زوار الشرق، أولاً الصيام الإسلامي الذي هو مادة جيدة لملاحظات بيتورسكية، ففي رمضان يتمّ الصيام بكرنفال طوال الشهر المقدس كله، حيث يمتنع المؤمنون عن الطعام، والتدخين، والشراب طوال النهار وفي الليل يمكن لغوتييه، ونرفال أن يستخدما أدلاء للسير في شوارع إسطنبول المشبعة بالأضواء اللماعة مثل تاج العقيق لإمبراطورية الشرق. فالمدينة مضاءة، ويعكس البسفور مسبحات من النار ترسمها القبب والمنائر، والشوارع التي كانت لا يحيي موتها أثناء النهار سوى الكلاب، غير أنه حينما يضرب المدفع اطلاقته معلناً نهاية الصوم، تدب في المدينة حيوية مرحة، اطلاقات مدفعية ونار كنار البنغال تلمع فوق المنائر مثل فنارات البحر:

(ألعاب نارية من الألماس والزمرد والسافير والياقوت الأحمر) تتفرقع على مبعدة ثلاثة أو أربعة فراسخ، وعلى ساحة الطوب، يتسارع البلغار، والشركس، والجورجيون، والأرناؤوط، واليونانيون الأتراك بروندوكاتهم وقفاطيهم فيشترون اللبن، والحلويات، والعصير، والمكسرات، فتسمع الدرابك وهي تشخر، والمزامير وهي تقوقيء، ويستمر في الفضاء الأزرق لليل هذا الكرنفال، حتى الشعاع الأول من الصباح.

والمشهد الثاني ذو المظهر الإسلامي البحت: هو الرقص الغريب للدراويش الذي ذهب لامارتين، وغوتييه في بييرا لرؤيتها، لرؤية هذه العروض الورعة، والمقدسة في صالة دائرية، حيث يشاهدها المرء بدهشة، فبعد أن تمر المواكب ببطء وبإيقاع متسارع، وبعد صلوات حادة عنيفة، وسجود وركوع غامر بالإيمان والصرامة، على هدير الصلوات والهمس الغريب، يأخذ واحد اثنان ثم ثلاثة فعشرة من الدراويش المزامير والطبول متعمرين طاقيات شبيهة بآنية الورد المعقوفة فيرمون أنفسهم وأذرعهم متصالبة، في رقص هائم بيد أنه منتظم، دون كلل، وبتسارع الإيقاع شيئاً فشيئاً، حتى تأخذ الهيئات شكلاً ذهولياً:

(إنه التعبير الورع الأكثر تقشفاً، ماذا كانوا يبصرون يا ترى في هذه الرؤى التي تؤرجحهم – يتساءل غوتييه – أتكون غابات الزمرد بثمار العقيق وجبال العنبر، والمران وأكشاك الماس وخيم اللآليء في الجنة؟).

لقد كانت ثغورهم الباسمة تتلقى دون شك القبلات المعطرة بالمسك واللبان قبلات الحوريات البيضاوات، قبلات خضراء، حمراء... وأعينهم الواجفة تتأمل روائع الله... كنت حضرت حتى المساء دوران التنانير البيض المنشورة وسمعت، وهي تطن في أذني، ثيمة المزمار الفائقة العذوبة الذي كان يتقافز على الهدير الخفيض للدرابك....اطلب الكتاب إذا أردت أن تعرف أكثر